الخليفة عمر ودوره فى ترسيخ القيم الحضارية الإنسانية (العهدة العمرية نموذجاً)

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بکلية اللغة العربية بالزقازيق جامعة الأزهر

المستخلص

کان عمر بن الخطاب نموذجاً عملياً لمفاهيم وقيم الحضارة الإسلامية، التى هى عبارة عن حلقة أساسية فى سلسلة القيم والحضارات الإنسانية، بل جاءت لتثبيت القيم والمثل العليا للحضارات التى سبقتها، لا لتلغيها أو تمحوها.
وطبق أمير المؤمنين عمر هذه القيم فى العهدة العمرية التى أعطاها لأهل بيت المقدس (إيليا).
 فذکر أن العهد لأهل إيليا تعظيما لشأن مدينتهم التي لها في الإسلام مکانة دينية عظيمة، وشمل الأمان أربعة أشياء هامة النفس والمال ودور العبادة (الکنائس) وشعائر العبادة (الصلبان)، بل وأکد على حرمة الکنائس، وعدم هدمها أو انتقاص جزء من المکان التابع لها "حيزها"، وأکد الأمان على حرية العقيدة التي کفلها الإسلام لأهل الکتاب والديانات الأخرى فقال... "ولا يکرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم".
وطلب عمر في کتاب الأمان من أهل المدينة إخراج الروم ومن يتبعهم من الأجناس الأخرى، وهم کانوا سلطة احتلال، إلا من أراد البقاء منهم في إيلياء فلا يجبر على ترکها مع الالتزام بما يلتزم به أهل إيليا، وفي الوقت نفسه فتح الباب أمام أهل إيليا لمن يريد منهم الرحيل مع الروم، ولهم الأمان حتى يصلوا إلى بلاد الروم.
وهنا نلاحظ وجود فرق بين أهل المدينة وبين الروم، ولم يحدث اندماج وتزاوج رغم أنهم على ديانة واحدة، ولکن اختلاف المذهب فرق بينهم، بالإضافة إلى سياسة الروم المتشددة لهم، واضطهادهم لأهل المدينة في کثير من الأحيان.
ويتضمن الکتاب نقطة هامة تدل على تسامح المسلمين، وهي أنه لن يجبي منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم، فلا يکون فيه مشقة عليهم، بل إن من أراد الخروج من المدينة، والرحيل عنها، له أن يبقي حتى يحصد حصاده، فلا يضيع جهده وتعبه، ثم يرحل بعد ذلک.
وقد دلت هذه الوثيقة على أصالة التسامح الإسلامي من جانب، وعلى المکانة التي لبيت المقدس من جانب آخر، ولعل التاريخ لا يذکر إلى جانب صفحة هذه الوثيقة صفحة أخرى من تسامح الأقوياء المنتصرين مع المحاصرين المستسلمين على النحو الذي ترد عليه بنود هذه الوثيقة، والذي لا نظير له في تاريخ الحضارات.
والتزم المسلمون بکل شروط الوثيقة نصاً ومعني، واعتبر المسلمون شروط هذه الوثيقة واجباً دينياً، وأول من التزم به الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، فعندما کان يتفقد آثار المدينة مع البطريرک صفرونيوس أدرکته الصلاة، فطلب منه البطريرک أن يصلى بها، فهي بيت من بيوت الله، فاعتذر عمر بأنه إن يفعل يتبعه المسلمون على تعاقب القرون، إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإن فعلوا أخرجوا النصارى من کنيستهم، وخالفوا عهد الأمان، واعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بکنيسة قسطنطين المجاورة لکنيسة القيامة، -وکانوا قد قدموا له عند بابها بساطاً يصلي عليه – وإنما صلى في مکان قريب منها.
واستمر الالتزام بها في أحقاب التاريخ الإسلامي کله، وتوالت عصور التاريخ، والمسلمون يعاملون أبناء الأديان الأخرى
 
 
في القدس وغيرها أفضل معاملة عرفت في التاريخ، لدرجة أن المؤرخ الإنجليزي توينبي اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة
 فريدة وشاذة في تاريخ الديانات.
وقداتخذ الفقهاء من هذا العهد قانوناً ثابتاً عولوا عليه في تحديد العلاقة بين المسلمين والنصارى، والذي يجب تطبيقه في البلاد المفتوحة، وأوصوا الخلفاء في کافة العصور بالالتزام به.